سورة الأعراف - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأعراف)


        


{قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)}
سأل النظرة والإمهال إلى يوم البعث والحساب. طلب ألا يموت لأن يوم البعث لا موت بعده، فقال الله تعالى: {إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ}. قال ابن عباس والسدي وغيرها:
أنظره إلى النفخة الأولى حيث يموت الخلق كلهم. وكان طلب الإنظار إلى النفخة الثانية حيث يقوم الناس لرب العالمين، فأبى الله ذلك عليه. وقال: {إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} ولم يتقدم من يبعث، لأن القصة في آدم وذريته، فدلت القرينة على أنهم هم المبعوثون.


{قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (17)}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {فَبِما أَغْوَيْتَنِي} الإغواء إيقاع الغي في القلب، أي فبما أوقعت في قلبي من الغي والعناد والاستكبار. وهذا لأن كفر إبليس ليس كفر جهل، بل هو كفر عناد واستكبار. وقد تقدم في البقرة. قيل: معنى الكلام القسم، أي فبإغوائك إياي لأقعدن لهم على صراطك، أو في صراطك، فحذف. دليل على هذا القول قوله في ص: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} كأن إبليس أعظم قدر إغواء الله إياه لما فيه من التسليط على العباد، فأقسم به إعظاما لقدره عنده.
وقيل: الباء بمعنى اللام، كأنه قال: فلإغوائك إياي.
وقيل: هي بمعنى مع، والمعنى فمع إغوائك إياي.
وقيل: هو استفهام، كأنه سأل بأي شيء أغواه؟. وكان ينبغي على هذا أن يكون: فبم أغويتني؟.
وقيل: المعنى فبما أهلكتني بلعنك إياي. والإغواء الإهلاك، قال الله تعالى: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} أي هلاكا.
وقيل: فبما أضللتني. والإغواء: الإضلال والإبعاد، قال ابن عباس.
وقيل: خيبتني من رحمتك، ومنه قول الشاعر:
ومن يغو لا يعدم على الغي لائما أي من يخب.
وقال ابن الأعرابي: يقال غوى الرجل يغوي غيا إذا فسد عليه أمره، أو فسد هو في نفسه. وهو أحد معاني قول تعالى: {وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى} أي فسد عيشه في الجنة. ويقال: غوي الفصيل إذا لم يدر لبن أمه.
الثانية: مذهب أهل السنة أي أن الله تعالى أضله وخلق فيه الكفر، ولذلك نسب الإغواء في هذا إلى الله تعالى وهو الحقيقة، فلا شيء في الوجود إلا وهو مخلوق له، صادر عن إرادته تعالى. وخالف الإمامية والقدرية وغيرهما شيخهم إبليس الذي طاوعوه في كل ما زينه لهم، ولم يطاوعوه في هذه المسألة ويقولون: أخطأ إبليس، وهو أهل للخطأ حيث نسب الغواية إلى ربه، تعالى الله عن ذلك. فيقال لهم: وإبليس وإن كان أهلا للخطأ فما تصنعون في نبي مكرم معصوم، وهو ونوح عليه السلام حيث قال لقومه: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وقد روي أن طاوسا جاءه رجل في المسجد الحرام، وكان متهما بالقدر، وكان من الفقهاء الكبار، فجلس إليه فقال له طاوس: تقوم أو تقام؟ فقيل لطاوس: تقول هذا لرجل فقيه! فقال: إبليس أفقه منه، يقول إبليس: رب بما أغويتني. ويقول هذا: أنا أغوي نفسي.
الثالثة: قوله تعالى: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} أي بالصد عنه، وتزيين الباطل حتى يهلكوا كما هلك، أو يضلوا كما ضل، أو يخيبوا كما خيب، حسب ما تقدم من المعاني الثلاثة ف {أَغْوَيْتَنِي}. والصراط المستقيم هو الطريق الموصل إلى الجنة. و{صِراطَكَ} منصوب على حذف {على} أو {في} من قوله: {صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}، كما حكى سيبويه ضرب زيد الظهر والبطن. وأنشد:
لدن بهزّ الكف يعسل متنه *** فيه كما عسل الطريق الثعلب
ومن أحسن ما قيل في تأويل {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ} أي لأصدنهم عن الحق، وأرغبنهم في الدنيا، وأشككهم في الآخرة. وهذا غاية في الضلالة. كما قال: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ} حسب ما تقدم.
وروى سفيان عن منصور عن الحكم بن عتيبة: {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} من دنياهم. {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} من آخرتهم. {وَعَنْ أَيْمانِهِمْ} يعني حسناتهم. {وَعَنْ شَمائِلِهِمْ} يعني سيئاتهم. قال النحاس: وهذا قول حسن وشرحه: أن معنى {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} من دنياهم، حتى يكذبوا بما فيها من الآيات وأخبار الأمم السالفة {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} من آخرتهم حتى يكذبوا بها. {وَعَنْ أَيْمانِهِمْ} من حسناتهم وأمور دينهم. ويدل على هذا قوله: {إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ}. {وَعَنْ شَمائِلِهِمْ} يعني سيئاتهم، أي يتبعون الشهوات، لأنه يزينها لهم. {وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ} أي موحدين طائعين مظهرين الشكر.


{قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)}
قوله تعالى: {قالَ اخْرُجْ مِنْها} أي من الجنة. {مَذْؤُماً مَدْحُوراً} {مَذْؤُماً} أي مذموما. والذام: العيب، بتخفيف الميم. قال ابن زيد: مذءوما ومذموما سواء، يقال: ذأمته وذممته وذمته بمعنى واحد. وقرأ الأعمش {مَذْؤُماً}. والمعنى واحد، إلا أنه خفف الهمزة.
وقال مجاهد: المذءوم المنفي. والمعنيان متقاربان. والمدحور: المبعد المطرود، عن مجاهد وغيره. وأصله الدفع. {لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين} اللام لام القسم، والجواب {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ}.
وقيل: {لَمَنْ تَبِعَكَ} لام توكيد. {لَأَمْلَأَنَّ} لام قسم. والدليل على هذا أنه يجوز في غير القراءة حذف اللام الأولى، ولا يجوز حذف الثانية.
وفي الكلام معنى الشرط والمجازاة، أي من تبعك عذبته. ولو قلت: من تبعك أعذبه لم يجز، إلا أن تريد لأعذبه. وقرأ عاصم من رواية أبي بكر بن عياش {لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ} بكسر اللام. وأنكره بعض النحويين. قال النحاس: وتقديره- والله أعلم- من أجل من تبعك. كما يقال: أكرمت فلانا لك. وقد يكون المعنى: الدحر لمن تبعك. ومعنى {مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} أي منكم ومن بني آدم، لأن ذكرهم قد جرى إذ قال: {وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ} خاطب ولد آدم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8